فصل: فصل في التشاور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في التشاور:

التشاور في اللُّغة: استخراج الرَّأْي، وكذلك المشورة كالمعونة، وشرت العسل، إذا استخرجته.
وقال أبو زيدٍ: شُرت الدَّابَّةَ، وشَوَّرْتُهَا، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابُّ، يقال له: الشّوار، والشَّوار بالفتح متاع البيت؛ لأنَّه يظهر للنَّاظر، ويقال: شوَّرته فتشوَّر، أي: خجلته، والشَّارة: هيئة الرَّجل؛ لأنَّه ما يظهر من زينته ويبدو منها، والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنُّطق وغيره.
قوله: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ}.
أن وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، مفعولًا بأَرَاد وفي اسْتَرْضَعَ قولان للنَّحويين:
أحدهما: أنه يتعدَّى لاثنين، ثانيهما بحرف الجرِّ، والتقدير: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم، فحذف المفعول الأوَّل وحرف الجر من الثاني، فهو نظير أَمَرْتُ الخَيْرَ، ذكرت المأمور به، ولم تذكر المأمور؛ لأنَّ الثاني منهما غير الأوَّل، وكلُّ مفعولين كانا كذلك، فأنت فيهما بالخيار بين ذكرهما وحذفهما، وذكر الأوَّل، دون الثاني والعكس.
قال الواحديُّ: {أن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ}، أي: لأَوْلاَدِكُمْ وحذف اللام، اجتزاءً بدلالة الاسترضاع؛ لأنَّه لا يكون إلاَّ للأولاد، ولا يجوز: دَعَوْتُ زَيْدًا وأنت تريد لزيد؛ لأنَّه لا يلتبس ها هنا خلاف ما قلنا في الاسترضاع، ونظير حذف اللاَّم قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] أي: كالو لهم، أو وزنوا لهم.
والثاني: أنه متعدٍّ إليهما بنفسه، ولكنه حذف المفعول الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ، ونظَّر الآية الكريمة بقولك: أَنَجَحَ الحَاجَةَ وَاسْتَنْجَحَتْهُ الحَاجَةُ وهذا يكون نقلًا بعد نقلٍ؛ لأنَّ الأصل رَضِعَ الوَلَدُ، ثم تقول: أَرْضَعَت المَرْأَةُ الوَلَدَ، ثم تقول: اسْتَرْضَعْتُهَا الوَلَدَ؛ هكذا قال أبو حيَّان.
قال شهاب الدين: وفيه نظر؛ لأنَّ قوله: رضِعَ الوَلَدُ يشعر أنَّ هذا لازمٌ، ثم عدَّيته بهمزة النقل، ثم عدَّيته ثانيًا بسين الاستفعال، وليس كذلك، لأنَّ رَضِعَ الوَلَدُ متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعوله غير مذكورٍ، وتقديره: رَضِعَ الوَلَدُ أُمَّهُ؛ لأنَّ المادَّة تقتضي مفعولًا به؛ كضرب، وأيضًا فالتعدية بالسين قول مرغوبٌ عنه، والسين للطلب على بابها؛ نحو: اسْتَسْقَيْتُ زَيْدًا مَاءً، واسْتَطْعَمْتُهُ خُبْزًا؛ فكما أنَّ ماءً وخبزًا منصوبان، لا على إسقاط الخافض كذلك {أَوْلاَدَكُمْ}، وقد جاء استفعل للطَّلب، وهو معدًّى إلى الثاني بحرف جرٍّ، وإن كان أَفْعَلَ الذي هو أصله متعدِّيًا لاثنين، نحو: أَفْهَمَنِي زَيْد المَسْأَلَةَ واستفهمته عنها، ويجوز حذف عن، فلم يجيء مجيءَ اسْتَسْقَيْتُ واسْتَطْعَمْتُ من كون ثانيهما منصوبًا، لا على إسقاط الخافض.
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتلوينٌ، أمَّا الالتفات: فإنه خروجٌ من ضمير الغيبة في قوله: {فَإِنْ أَرَادُوا} إلى الخطاب في قوله: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ}؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات، وأمَّا التلوين في الضمائر، فإنَّ الأول ضمير تثنيةٍ، وهذا ضمير جمعٍ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضًا؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولُودِ له، ولكنه غَلَّبَ المُذَكَّرَ، وهو المولودُ له، وإنْ كان مفردًا لفظًا، و{فَلاَ جُنَاحَ} جوابُ الشرطِ.
قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم} إذا شرطٌ حذف جوابه؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، قال أبو البقاء: وذلك المعنى هو العاملُ في إذا وهو متعلِّق بما تعلَّق به عَلَيْكُم، وهذا خطأٌ في الظاهر؛ لأنه جعل العامل فيها أولًا ذلك المعنى المدلول عليه بالشَّرط الأوَّل وجوابه، فقوله ثانيًا وهو متعلِّق بما تعلَّق به عَلَيْكُم تناقضٌ، اللهم إلا أن يقال: قد يكون سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصل أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ فيصحُّ، إلاَّ أنه إذا كان كذلك، تمحَّضت إذا للظرفية، ولم تكن للشرط، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطيةٌ في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه.
وليس التَّسليم شرطًا للجواز والصحَّة، وإنَّما هو ندب إلى الأولى، والمقصود منه أن يسلِّم الأجرة إلى المرضعة يدًا بيدٍ، حتى تطيب نفسها، ويصير ذلك سببًا لصلاح حال الطِّفل، والاحتياط في مصالحه.
وقرأ الجمهور: {آتَيْتُمْ} بالمدِّ هنا وفي الرُّوم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِّن رِّبًا} [الروم: 39] وقصرهما ابن كثير.
وروى شيبان عن عاصم {أُوتِيتُمْ} مبنيًّا للمفعول، أي: ما أقدركم الله عليه، فأمَّا قراءة الجمهور، فواضحةٌ؛ لأنَّ آتَى بمعنى أَعْطَى، فهي تتعدَّى لاثنين، أحدهما ضمير يعود على مَا الموصولة، والآخر ضميرٌ يعود على المراضع، والتقدير: ما آتيتموهنَّ إيَّاه، فهُنَّ هو المفعول الأوَّل؛ لأنه الفاعل في المعنى، والعائد هو الثاني؛ لأنه هو المفعول في المعنى، والكلام على حذف هذا الضمير، وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإشكال، والجواب عند قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3].
وأمَّا قراءة القصر، فمعناها جئتم وفعلتم يقال: أَتَيْتُ جميلًا، إذا فعلته؛ قال زهيرٌ: الطويل:
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ** تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ

أي: فعلوه، والمعنى: إذا سلَّمتم ما جئتم وفعلتم.
فعلى هذه القراءة يكون التَّسليم بمعنى الطَّاعة، والانقياد، لا بمعنى تسليم الأجرة، يعني: إذا سلَّمتم لأمره وانقدتم لحكمه.
وقال أبو عليٍّ: ما أتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو عائد الموصول، فصار: آتيتموه، أي: جئتموه.
وأما قراءة عاصم، فمعناها: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].
ثم حذف عائد الموصول، وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير: ما جئتم به، فحذف، يعني: حذف على التَّدريج بأن حذف حرف الجرِّ أولًا؛ فاتَّصل الضمير منصوبًا بفعلٍ، فحذف.
وما فيها وجهان:
أظهرهما: أنها بمعنى الَّذِي وأجاز أبو عليٍّ فيها أن تكون موصولةً حرفيَّةً، ولكن ذكر ذلك مع قراءة القصر خاصَّةً، والتقدير: إذا سلَّمتم الإتيان، وحينئذٍ يستغنى عن ذلك الضَّمير المحذوف، ولا يختصّ ذلك بقراءة القصر، بل يجوز أن تكون مصدريَّةً مع المدِّ أيضًا؛ على أن المصدر واقعٌ موقع المفعول، تقديره: إذا سلَّمتم الإعطاء، أي: المعطى.
والظاهر في مَا أن يكون المراد بها الأُجرة التي تتعاطاها المرضع، والخطاب على هذا في قوله: {سَلَّمْتُمْ} و{آتَيْتُمْ} لآباء خاصَّة، وأجازوا أن يكون المراد بها الأولاد، قاله قتادة والزهري، وفيه نظرٌ؛ من حيث وقوعها على العقلاء؛ وعلى هذا فالخطاب في {سَلَّمْتُمْ} للآباء والأمَّهات.
قوله تعالى: {بالمعروف} فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق ب {سَلَّمْتُمْ} أي: بالقول الجميل.
والثاني: أن يتعلَّق ب {آتَيْتُمْ}.
والثالث: أن يكون حالًا من فاعل {سَلَّمْتُمْ}، أو {آتَيتُمْ}، فالعامل فيه حينئذٍ محذوفٌ، أي: مُلْتَبِسِينَ بالمعروف. اهـ. باختصار.

.قال ابن عاشور:

الوسع، بتثليث الواو: الطاقة، وأصله من وسع الإناء الشيء إذا حواه ولم يبق منه شيء، وهو ضد ضاق عنه، والوسع هو ما يسعه الشيء فهو بمعنى المفعول، وأصله استعارة؛ لأن الزمخشري في الأساس ذكر هذا المعنى في المجاز، فكأنهم شبهوا تحمل النفس عملًا ذا مشقة باتساع الظرف للمحوي، لأنهم ما احتاجوا لإفادة ذلك إلاّ عند ما يتوهم الناظر أنه لا يسعه، فمن هنا استعير للشاق البالغ حد الطاقة.
فالوسع إن كان بكسر الواو فهو فعل بمعنى مفعول كذبح، وإن كان بضمها فهو مصدر كالصلح والبرء صار بمعنى المفعول، وإن كان بفتحها فهو مصدر كذلك بمعنى المفعول كالخلق والدرس والتكليف بما فوق الطاقة منفي في الشريعة.
وبني فعل تكلف للنائب ليحذف الفاعل، فيفيد حذفه عموم الفاعلين، كما يفيد وقوع نفس، وهو نكرة في سياق النفس، عموم المفعول الأول لفعل تكلف: وهو الأنفس المكلفة، وكما يفيد حذف المستثنى في قوله: {إلا وسعها} عموم المفعول الثاني لفعل تكلف، وهو الأحكام المكلف بها، أي لا يكلف أحد نفسًا إلاّ وسعها، وذلك تشريع من الله للأمة بأن ليس لأحد أن يكلف أحدًا إلاّ بما يستطيعه، وذلك أيضًا وعد من الله بأنه لا يكلف في التشريع الإسلامي إلاّ بما يستطاع: في العامة والخاصة، فقد قال في آيات ختام هذه السورة {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]. اهـ.

.أبحاث تتعلق بالآية:

.الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية:

بقلم: الدكتور زغلول النجار:
قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233].
تثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الجهتين الصحية والنفسية. ولكن نعمة الله علي الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتي يعلموا هذا من تجاربهم، فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده، خاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية.

.من الدلالات الطبية والتشريعية في النص الكريم:

يؤكد هذا النص القرآني الكريم أهمية الرضاعة الطبيعية من الأم الوالدة لمدة أقصاها حولين كاملين أربعة وعشرون شهرا قمريا ولذلك قال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233] وهذا النص فيه من الدلالات الطبية والتشريعية مايمكن إيجازه فيما يلي:

.أولا: من الدلالات الطبية:

(1) أن لبن الوالدة مناسب في تركيبه الكيميائي وصفاته الطبيعية وكمياته لحاجة الرضيع طوال فترة الرضاعة، ومن معجزات الخالق سبحانه وتعالى أن هذا التركيب الكيميائي وتلك الصفات والكميات للبن الوالدة يتغير تلقائيا مع تغير أحوال الرضيع ووزنه وهل هو مكتمل العمر الرحمي أو مبتسر، ومع إحتياجاته الغذائية وحالته الصحية بل مع مراحل الرضعة الواحدة من أولها إلي آخرها. ففي الأسبوع الأول من عمر الرضيع يحتوي لبن الوالدة علي كميات أعلي من البروتينات، ومن كريات الدم البيضاء والفيتامينات خاصة فيتامين- أ، ومادة اللاكتوفرين المثبتة لعنصر الحديد حتي يستفيد منه الرضيع، وعلي كميات أقل من الدهون والمواد الكربوهيدراتية عن اللبن في الأسابيع التالية.
(2) أن الدهون في لبن الأم هي دهون ثلاثية بسيطة يسهل هضمها وامتصاصها مع كميات متدرجة من الأحماض الدهنية المشبعة والزيوت الدهنية الطيارة، وكذلك الكربوهيدرات وأغلبها سكر ثنائي بسيط يعرف باسم سكر اللبن أو اللاكتوز Lactose يسهل علي معدة الرضيع هضمه وامتصاصه، ويحول بعضه إلي حمض اللبن Lacticacid في أمعاء الرضيع مما يساعد علي امتصاص عنصر الكالسيوم اللازم لبناء عظامه. والأملاح في لبن الوالدة محددة بنسب يسهل امتصاصها وتمثيلها في جسد الرضيع، والفيتامينات في هذا اللبن الفطري كافية لتلبية كل احتياجات الرضيع طوال الشهور الستة الأولي من عمره، وفيه من الخمائر الهاضمة مايعين معدته علي امتصاص مافي الرضعة من مركبات كيميائية.
(3) أن لبن الوالدة معقم تعقيما ربانيا، ولذلك فهو خال تماما من الميكروبات والفيروسات ومن غيرها من مسببات الأمراض خاصة إذا كانت الوالدة من صاحبات الأيدي المتوضئة والمحافظات علي طهارة البدن والثياب والمكان، والحريصات علي سلامة فلذات أكبادهن.
هذا بالإضافة الي أن هذا اللبن الفطري جاهز للرضيع في كل زمان ومكان ودائم الطزاجة، والوجود في درجة حرارة توائم المناخ المحيط به صيفا وشتاء.
(4) في لبن الوالدة من المضادات الحيوية النوعية ومن مقويات جهاز المناعة مايحمي الرضيع من كثير من الأمراض خاصة أمراض الحساسية التحسس. والإسهال، والنزيف المعوي، والمغص، وغيرها، وعلي ذلك فهو أفضل غذاء للوليد حتي تمام السنتين من عمره وإن كان بإمكان الأم إضافة قدر ملائم من الطعام المناسب ابتداء من الشهر السادس من عمر الوليد.
(5) أن الرضاعة الطبيعية ليست فقط مفيدة للرضيع بل للوالدة المرضعة أيضا، لأن الرضاعة تساعد في تنشيط إفرازات الغدد المختلفة في جسدها مما يعين علي استقرارها النفسي والجسدي، وعلي وقف نزيف مابعد الولادة برجوع الرحم الي حجمه الطبيعي وانطماره، هذا بالإضافة إلي إن الهرمونات المسئولة عن إدرار اللبن هي هي المسئولة عن عملية تثبيط عملية التبويض إنتاج البيوضات حتي لاتحمل الأم وهي لاتزال ترضع لما في ذلك من أخطار صحية عليها وعلي رضيعها، كما يريحها ذلك من آلام الطمث وهي في مرحلة الإرضاع، وفوق ذلك كله لوحظ أن الوالدات المرضعات هن أقل إصابة بالأورام السرطانية- خاصة في الصدر وفي المبيضين- عن كل من غير المرضعات، وغير الوالدات، وغير المتزوجات.
(6) أن نشاط مخ المرضعة أثناء الرضاعة هو من الأمور المتعلقة بنشاط وظائف الأعضاء في جسدها كله حيث تنبعث إشارات عصبية من الهالة الداكنة المحيطة بحلمة الثدي الي الغدة النخامية بالمخ عن طريق العصب الحائر فتفرز هرمون البرولاكتين Prolactin اللازم لإنتاج اللبن في الثديين عن طريق الخلايا المختصة بذلك في كل منهما- كما أن عملية الرضاعة ذاتها تنبه الغدة النخامية أيضا لإفراز هرمون الأكسيتوسين Oxytocin المنشط لعضلات الثدي فتبدأ في الانقباض والانبساط من أجل إفراز اللبن وتوجيهه إلي الحلمة، وعدم استخدام هذه الأجهزة التي وهبها الله تعالى لجسد المرأة قد يكون فيه من الأضرار الصحية لها مالايعلمه إلا الله تعالى.
(7) أن الانعكاسات الإيجابية التي تحققها عملية الرضاعة الطبيعية علي نفسية كل من الرضيع والمرضعة، والتي تتجلي في تقوية الصلة الروحية بينهما علي أساس من التعاطف والحب والحنان والارتباط الوثيق هي من الأمور الفطرية التي أودعها الخالق سبحانه وتعالى في قلب كل من الوالدة والمولود، وبفقدانها يفقد كل منهما مرحلة من مراحل حياته تهبه من أسباب التوازن النفسي والعاطفي مايجعله مخلوقا سويا.
(8) ولما كان للرضاعة في الحولين الأولين من عمر الوليد تأثير علي صفاته الوراثية أعطي القرآن الكريم الأولوية في إرضاع المولود للأم التي ولدته فقال ربنا تبارك وتعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 33].
والأمر الإلهي بالإرضاع جاء بصيغة المضارع إقرارا لاستمرارية هذا الأمر لكل والدة أن ترضع مولودها تحقيقا لدور الأمومة ولحق مولودها عليها. ولكن في بعض الظروف الخاصة التي لاتستطيع الوالدة أن ترضع فيها وليدها صرح القرآن الكريم بأن ترضع له أخري مع بقاء الأولوية في الرضاعة للأم الوالدة فقال تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} الطلاق:.
(9) ويفهم من النص الكريم أن تمام مدة الرضاعة هو حولان كاملان أربعة وعشرون شهرا قمريا ولكن ترك الأمر لتقدير الوالدين فقال تعالى: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} [البقرة: 233] علي أن تمام الرضاعة هو عامان وذلك في مقام آخر بقوله تعالى: {وفصاله في عامين} [لقمان: 14] وذلك لتباين مدد الحمل بين ستة وتسعة أشهر قمرية بين 117 و266 يوما لقوله تعالي: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف: 15]. فإذا ولد الحميل لستة أشهر قمرية كان واجبا إتمام مدة الحمل والفصال ثلاثين شهرا قمريا، ولكن إذا اكتملت فترة الحمل إلي تسعة أشهر قمرية كان كافيا لفترة الرضاعة التامة واحد وعشرون شهرا ليكمل فترتي الحمل والرضاعة إلي ثلاثين شهرا.
(10) أثبتت الأبحاث في مجال طب الأطفال كما أشار الأستاذ الدكتور مجاهد أبو المجد أن هناك ارتباطا وثيقا بين الرضاعة من منتجات الألبان الحيوانية المصنعة وغير المصنعة- خاصة لبن الأبقار- وبين انتشار مرض الداء السكري بين الأطفال الرضع، وانعدام ذلك في حالات الرضاعة الطبيعية من الوالدة. وكان تعليل ذلك أن البروتين الموجود في لبن الأبقار يؤدي الي تكوين أجسام مناعية مضادة في دم الرضع دون العامين لأن انزيمات الهضم عندهم لا تستطيع تكسير البروتينات المعقدة في ألبان الأبقار، وأن هذه الأجسام المناعية تقوم بتدمير أعداد من الخلايا المهمة في بنكرياس الرضيع من مثل الخلايا التي تقوم بإفراز مادة الإنسولين.
ولكن بعد تجاوز العام الثاني من عمر الوليد فإن تناوله للبن الأبقار لايسبب تكون مثل هذه الأجسام المناعية المضادة ويفسر ذلك باكتمال نمو الغشاء المخاطي المبطن للجهاز الهضمي عند الوليد والذي لا يتم اكتماله إلا بعد عامين كاملين من عمره، فتستطيع إنزيمات الهضم عنده تكسير البروتينات المعقدة في ألبان الحيوانات فلا تتكون أجسام مناعية مضادة لها، وهنا تتضح ومضة الإعجاز العلمي والطبي في قول ربنا تبارك وتعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233].
(11) كذلك أثبتت الدراسات العلمية أخيرا أن ألبان الأنعام- خاصة ألبان الأبقار- تحتوي علي عدد من الأحماض الأمينية تزيد بثلاثة إلي أربعة الأمثال علي ما في لبن الأم مما قد يؤدي إلي ارتفاع نسبة تلك الأحماض في دم الرضيع فيعرضه للإصابة ببعض الإعاقات الذهنية، ويؤدي إلي رفع نسب وفيات الرضع الذين يتغذون أساسا علي الألبان الحيوانية غير المصنعة والمصنعة.